هذه نبذة مختصرة عن العلامة المرحوم سيدي محمد المختار السوسي كما سطرها هو عن نفسه في الجزء الأول من المعسول. أسطرها مختصرة توشيحا لكراستي هذه كما تحدث هو عنها، كي يستفيد مَن كتب الله له ذلك، مِن تلكم الشخصية الفذّة التي قل نظيرها اليوم همةً وتحصيلا للعلم والبحث وتحصيل لمختلف العلوم. فهو بشخصه موسوعة قلّ نظيرها رحمه الله وبارك في عقبه وفي ذريته وأهل بيته ومحبيه وتلامذته وجزاه الله عن الأمة خيرا.
يقول وبعد، فقد ولعت منذ عرفت يميني من شمالي بالتاريخ والأدب وبمطالعة كتبهما. فلا أظل ولا أبيت إلا بين كتاب أبتدئه وآخر أختتمه وأنا ابن نحو عشر سنين. ثم لما وطِئْت تراب الأرض بقدم الهجرة ووجدت خزائن تطفح بالكتب الكبرى، أقبلت بنَهم الذي لا يشبع على الْتهام كل ما تقع عليه عيني كيفما كان الكتاب ما دام يمتّ إلى الأدب والتاريخ بصلة.
ولما حللت بفاس وكنت من قبل في مراكش واحواز مراكش فتلقحت في جو فاس بما لو لم أتلقح به لَما كانت لي فكرة ولا تحركت بي همة.
تكونت لي في فاس فكرة دينية فرقت بها ما بين الخرافات المموهة وبين الروحانيات الربانية. كما نبتت مني غيرة وطنية نسيت بها نفسي ومصالحي الشخصية، فأعددت نفسي فداء لديني ولوطني ولأمتي التي هي أمة العرب والإسلام جمعاء. وأنا بين هاتين، الفكرة والغيرة أسبح في آداب حية طلع بها هذا العصر الجديد. فصرت أقرأ من نثر المنفلوطي وفريد وجدي ومحمد عبده وإضرابهم، ومن شعر شوقي وحافظ ومطران وأمثالهم. وأن الذي كنت أسبح فيه منذ صغري لا يبرد جسدا ولا يقضي على لهفة.
ومن فاس الى الرباط حيث استفدت في الرباط علوما ومفهوما لم أجدها إلا في الرباط وعند مشايخ الرباط.
وبعد ذلك حللت بالحمراء وقد ألقيت فيها مرساتي وأنوي أن أقضي الواجب علي لديني ولوطني ولشعبي، ما بين تلميذ يُهدّب وبين درس إرشاد يُلقى. ومن بين ذلك أوظف الكتابة فيما يرفع من شأن هذه الأمة من إحياء ما اندثر من آثار ماضيها ومن المحافظة على اللغة العربية الفصحى التي أراها إذ ذاك في انهيار. ففي هذه الميادين الثلاثة قضيت أزمانا تكشفت عن أعمال كان فضل الله علي فيها عظيما.
وجاء النفي بغتة إلى إلغ، مسقط رأسي حيث أُمنع من أن أتصل بالناس، فوجدت نفسي فجأة أمام بيئة كنت نسيتها.
وهكذا خاطب المختار حاله بقصيدة اشتملت على 140 بيتا، نقتطف منها البيتين الأولين والآخيرَين:
إليكم بني أمي أئيب ركائبي — فياليت شعري هل أنا خير آئب
فقد غبت أحقابا طوالا وإذا أنا — أعود كأن لم أغْد قطّ بغائب
صدفت إلى أن كان ميلي إليكم — ورجعاي اليوم إحدى العجائب
كأن لم يكن إلغ بلادي التي بها — سمَوت به فوق الذرى والمناكب
سلام كما طابت شمائل منكم — وفاحت لديكم طيبات المناكب
يعمكم يا آل إلغ فأنتم — جميعا أدوائي وغرّ أقاربي
وكان مقصودة كما أخبر: أن تزول كل الحجب التي تكاثفت في العشرين سنة التي فارقهم فيها من عام 1336 هجرية إلى عام 1356. ثم سرعان ما واصلوني بقصائدهم فأجبت كل واحد قافية بقافية حتى تكون من ذلك كتابا في ثلاثة أجزاء وهو كتاب “الإلغيات”.
إلى أن قال رحمه الله وأجزل توابه: لما وجدت الآن الفراغ في هذا المنفى ووجدت بعض المواد أقبلت على جمع كل ما اتصل به من وفيات لعلماء وقوافي أدباء ورسائل المخاطبات. فجعلت للأدباء كتابا خاصا وهو “المترعات”، وكتابا للرؤساء السوسيين وللعلماء السوسيين وهو “رجال العلم العربي في سوس”. وكتابا خاصا عن إلغ، فأكتب – عن شيوخ هناك مسنين – كل ما يصلح أن يدخل في كتاب، فأجمع التراجم وأقيد الأوابد وأنظم الأحاديث. وقد رأيت استيفاء لكل ما اتصل به من آثار إلغية أو سوسية أن أُسمي الكتاب (المعسول) في الإلغيين وأساتذتهم وتلاميذهم وأصدقائهم السوسيين. فاشترطت أن أسهب في ترجمة كل أستاذ أو تلميذ، أذكر كل علماء أسرته وكل من أخذوا عنه. ولا أقصد – يعلم الله – إلا أن أفتح الباب لذكر كل من أعرف عنه شيئا من الأسر التي تمُتّ إلى إلغ بالأستاذية أو بالتلمذة أو بالصداقة، لأن الكتاب مائدة أدبية تاريخية لا يوصد دونها باب ولا يكون دونها حجاب.