مدارسة الآيات -26- إلى نهاية الآية -29- من سورة إبراهيم:
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ* وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ* يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخرةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ)
معتمدين في ذلك على ما جاء في كتب التفسير. وسورة إبراهيم التي تشتمل على هذه الآيات مكية وآياتها اثنتان وخمسون آية إلا آيتين -30 و31- فهي مدنية (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ). وقال عطاء ابن ياسر نزلت هذه الآيتان في الذين قتلوا في بدر.
وسورة إبراهيم تشتمل في الغالب على ما تشتمل عليه السور المكية وهو العقيدة في أصولها الكبيرة، الوحي والرسالة، التوحيد، البعث، الجزاء، والحساب.
وهناك حقيقتين كبيرتين تظللان جو السورة كلها وهما حقيقة وحدة الرسالة والرسل ووحدة دعوتهم في مواجهة المكذبين بدين الله على اختلاف الأمكنة والأزمان وحقيقة نعمة الله على البشر وزيادتها بالشكر ومقابلة أكثر الناس لها بالجحود والكفران.
ويعقب الحق سبحانه على ذلك بمثل الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة، ليصور لنا سنته في الطيب والخبيث في هذه الحياة.
والكلمة الطيبة هي كلمة الحق كالشجرة الطيبة تابتة لا تزعزعها الأعاصير. ويقال كذلك هي كلمة لا إله الا الله. ويقال هي النخلة أصلها تابت في الأرض وفرعها في السماء تؤتي ثمارها كل حين.
والكلمة الخبيثة هي كلمة الباطل. كالشجرة الخبيثة تتعالى ثم تجتث من فوق الأرض فلا قرار ولا بقاء. وهي كذلك كلمة الكفر كشجرة الحنظل.
وقد أشار الإمام القشيري إشارات ذوقية في معنى جميل لهذه الآيات نختصر منها ما يلي.
((هذا مثل ضربه الله للإيمان والمعرفة به سبحانه. فشبهه بشجرة طيبة ينتفع بها أهلها كل حين. وأصل تلك الشجرة المعرفة والايمان مصححا بالأدلة والبراهين وفروعها الأعمال الصالحة التي هي الفرائض ومجانبة المعاصي، وأوراق تلك الشجرة القيام بآداب العبودية، وأزهارها الأخلاق الجميلة. وثمارها حلاوة الطاعة ولذة الخدمة. وحلاوة الطاعة وهي صفة العابدين. والبسط الذي يجده العبد في وقته وهو صفة العارفين. وراحة في الضمير وهو صفة المريدين. وأنس يناله في سره وهو صفة المحبين.
ويقال الشجرة الطيبة. هي الشهادة بالألوهية وللرسول صلى الله عليه وسلم بالنبوة وإنما تكون طيبة إذا صدرت عن سر مخلص.
والشجرة الطيبة التي هي المعرفة أصلها تابت في أرض غير سبخة. والأرض السبخة هي قلب الكافر والمنافق. فالإيمان لا ينبث في قلبيهما كما أن الشجرة في الأرض السبخة لا تنبث. ثم لا بد للشجرة من الماء. وماء هذه الشجرة هو دوام العناية وإنما تورق بالكفاية وتتورد بالهداية ويقال ماء هذه الشجرة هو الندم والحياء والأمانة والخشوع وإسبال الدموع. ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة وهي كلمة الكفر وخبثها ما صاحبها من نجاسة الشرك فخبث الكلمة لصدورها عن قلب هو مستقر الشرك ومنبعه.
والشجرة الخبيثة هي الشرك اجثت من فوق الأرض لأن الكفر متناقض متضاد. ليس له أصل صحيح ولا برهان موجب وإنما هو شبه واباطيل تقتضي وساوس ما لها من قرار لأنها حاصلة من شبه واهية وأصول فاسدة.
وفي قوله جل ذكر (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ).
يثبته الله – أي العبد المؤمن – حتى لا بدعة تعتريه وفي الآخرة يثبته برسله من الملائكة. ويثبته عند السؤال والمحاسبة وفي الجنة يثبته لأنه لا يزول حمد العبد لله (يثبته بالقول التابث في الحياة وبعد الممات) والقول التابث هو البقاء على الاستقامة وترك العوج.
1) مصادر التفسير الظلال للسيد قطب
2) لطائف الإشارات للأمام القشيري ج/2/ص 122