الإسلام دين ودولة

السياسة لغة ساس يسوس سياسة يعني دبر يدبر تدبيرا، فكل أمر مدبر محكم ومتقن وممنهج فهو مسيس ومقنن، فإذا قلنا تسيس الدين فذلك خطأ في التعبير وفي المفهوم الفكري لهذا الدين الذي هو دين ودولة. (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)  [ آل عمران: 85] والإسلام شُرع بحكمة إلهية (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) [آل عمران:128] فشمولية دين الإسلام يشمل واقع الفرد والمجتمع. أنظر سورة النور مثلا وسورة الحجرات في الآداب ومن فقه الفروع التي تشمل الإسلام في أحكامه وتشريعاته ومقاصده وعالميته، ذلك ما يجعله يلمس جميع مناحي الحياة بشمولية عظيمة المقاصد، والتي تشمل كل ما يجعل الإنسان كامل الإنسانية في كل مناحي حياته ومماته، ومن ذلك: الحكم وتدبيره في مشروعية العدل والشورى وتوزيع الثروات والأمن وغير ذلك من إقامة الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وإذا علمنا هذا فليس لنا أن نقول “دَعْ ما لقيصر لقيصر، وما لله لله!”. لا يمكن أن نفهم الدين من زاوية الشرائع التعبدية التي تربطنا بوحدانية الله عز وجل فقط ونترك ما يتفرع منها من فقه المعاملات والآداب الإسلامية وما جاء في سورة النساء والأحزاب وبيعة الرضوان.

رسول الله قدوتنا، أنظر كيف أسس دولة الإسلام في المدينة – المبنية على العدل والشورى – وكذلك سيرة الخلفاء الراشدين، مِرآة لمن أراد أن يَذّكر ممن أرادوا نفي السياسة عن الدين، فالإسلام دين ودولة والصحابة كانوا فرسان بالنهار رهبان بالليل. أنظر كيف آخ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دار الهجرة وكيف أقام دولة الإسلام.
ومن لم يكن له إلمام بالسيرة العطرة وفقهها فلا يمكن أن يستوعب شمولية هذا الدين.

انظر الى الحديث الذي رواه أحمد وغيره وصححه الحاكم والألباني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (لَتُنتَقَضَنَّ عُرى الإسلامِ عُروةً عُروةً، فكُلَّما انتَقَضَت عُروةٌ تَشَبَّث النَّاسُ بالتي تليها، فأَوَّلُهنَّ نَقضًا الحُكمُ، وآخِرُهنَّ الصَّلاةُ)، تأمل معي أيها المتصفح لكلمات هذا الحديث وقل لي إن كنت ممن ينادي “بللايكية” كيف تفصل الدين عن الدولة وما هو تصورك وكيف.

إذا تأملنا هذا الحديث نجد أنه لا يمكن فصل الدين عن الدولة، فالإسلام دين ودولة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الترمذي وابن حبان والحاكم وصححه ووافقه الذهبي والألباني (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر) والحديث (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين) الذي رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، إذا لم يكن عندك إلمام شامل عن السيرة النبوية وعن الصحابة الكرام الهادين المهديين فلن تفهم معنى الإسلام كدين ودولة. انظر الى أهمية المساجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وفي عهد التابعين وتابع التابعين، ودورها الريادي في نشر ثقافة هذا الدين القيم الذي ارتضاه الله رحمة للعالمين ولنا أن نفهم المعنى الواسع لرحمة الله (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) [طه: 50]. كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في تفسيره على هذه الآية “فهدى كل نفس لجلب ما يصلحها وينفعها ودفع ما يضرها ويفسدها، وخص النوع الإنساني بأنواع أُخَر من الهداية التي يعرفها ويتمكن من النطق بها لهداية غيره، ومن أعلى أنواع هذا الهدى هدى البيان والدلالة وتعريف الإنسان ومعرفته مراده ومراد غيره”. وفي الآية دلالة في الرد على من ينادي “بالايكية” ويستكبر على الحق، وقد جاءت هذه الآية في سياق رد موسى عليه السلام على سؤال فرعون وكِبر فرعون على الحق.

الرحمة الواسعة من رب العباد طريق مستقيم في الدنيا للعبور الى الآخرة دار الخلد والبقاء والنعيم الدائم ورضا المولى الكريم الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. فالأموال والطعام والصحة والعلم وقدرات العقل في المواهب أرزاق مقسمة بين العباد من رب العباد بحكمته وعدله. فالمؤمن أمره كله خير إن كان خيرا شكر وإن كان غير ذلك صبر. وإذا افتقد الإنسان القيادة الرشيدة تعثر في سيره فبات سيره عشوائيا فكان ظالما لنفسه مبين. والسكوت عن ظلم الظالم ظلمان.

والعلم بالله فريضة و(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر:28] هذه الآية خضع لها أكبر علماء الغرب ومنهم من أعلن إسلامه ومنهم من أنصف الأمة الإسلامية، فلم يَسِر على نهج مؤرخي أوروبا الذين صار من تقاليدهم إنكار فضل الإسلام على العالم الغربي. فهذا الفيلسوف الفرنسي جوستاف لوبون الذي يرى بأن «القرآن قانون ديني وسياسي واجتماعي، وأحكامه نافذة منذ قرون كثيرة، والمسلمون إخوة يعبدون إلها واحدا، وشريعتهم واحدة يبغضون ما يبغضون ويحبون ما يحبون، ويجمع الحج كل سنة في مكة جماعات المؤمنين، وحرص الإسلام على تقرير المساواة في أكمل صورها وجعلها من العقائد الأساسية التي يجب أن يدين بها كل مسلم».

“لن تكون متدينا إلا بالعلم، فالله لا يعبد بالجهل” (مصطفى محمود) نعم العلم بأسرار الخلق والخالق دون أن نفصل بين الدين والعلم. فالعلم يحيلك إلى الفهم الصحيح والعميق دون سطحية تحيلك إلى الفهم الناقص الذي يخطو بنا في عرجة متعبة في الحياة وعشوائية متعثرة من غير هدف يجمعك مع الله في كل خطوة. فربط المطلب العدلي بالمطلب الاحساني يحيلنا إلى شمولية في الدين. فتلك رتبة تُنال بخطى تابة ومتواصلة الحلقات كما قيل “من عمل بما علم ، أورثه الله علم ما لم يعلم” وقد دل على ذلك قوله تعالى (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) [ مريم : 76 ]، وقوله (وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَىٰهُمْ تَقْوَىٰهُمْ) [محمد : 17].

ومن الأحاديث التي تبرز لنا أهمية العلم بالدين والدنيا قوله صلى الله عليه وسلم (مَنْ سلَكَ طريقًا يلْتَمِسُ فيه عِلْمًا سهّلَ اللهُ لهُ بهِ طريقًا إلى الجنة، وإنَّ الملائكةَ لتَضَعُ أجْنِحَتَها لِطالِبِ العلمِ رِضًى بِما يصْنع، وفضلُ العالِمِ على العابدِ كفضلِ القمرِ على سائرِ الكواكبِ) رواه مسلم وغيره، فإن الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها أخذها. وفي الحديث “من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع”.” رواه الترمذي والضياء وحسنه الألباني. (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت:69] يعني أن الله عز وجل لن يخيب من جاهد نفسه في سبيل تحصيل هذا العلم، النافع طبعا.

وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “طلب العلم فريضة على كل مسلم” والمسلمة أيضا داخلة في لفظ مسلم، لأنه إذا أطلق شمل الذكر والأنثى. ‏والراجح من أقوال العلماء أن الحديث صحيح لغيره. والعلم المفروض تعلمه على كل مسلم ‏هو علم فروض الأعيان، كمعرفة الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه ‏وصفاته إجمالاً، ومعرفة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ووجوب اتباعه في كل ما أمر ‏واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن شريعته ناسخة لغيرها، وتعلم الوضوء والغسل والصلاة ‏وغير ذلك. 
وأما فروض الكفايات كتغسيل الميت والصلاة عليه وغير ذلك فلا يجب على ‏كل مسلم. وكذا من استقل بشيء كالتجارة فرض عليه دون غيره تعلم أحكام البيع، لئلا ‏يبيع الحرام، أو يتعامل بالربا.‏
وكذا علوم الطب والاقتصاد والهندسة لا يجب تعلمها على كل مسلم، بل يكفي تعلم ‏البعض لها.‏

ولنعلم أن المساجد لله، فالمسجد في دولة الإسلام مكان لنشر العلم والوعي بما ينفع الناس في دينهم ودنياهم. دستورهم القرآن العظيم وقائدهم الرسول صلى الله عليه وسلم النبي الخاتم الذي أرسله الله رحمة للعالمين بشيرا ونذيرا وسراجا منيرا، اللهم صلّ عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين. هذا الاتباع هو ما جاء في الآية 31 من سورة آل عمران ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، فالاتباع وراثة نبوية. ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم هو اتباع سنته وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاوية في الصحيحين “من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين” فليس المعنى في هذا الحديث: أن يفقهه في الدين، أي: أن يجعله عالماً بالحلال والحرام فقط، كلا! بل المعنى أشمل من ذلك، فالمعنى أن من أراد الله به خيراً جعله عالماً في الدين، عالماً بالله تعالى، وعالماً بالعقيدة الصحيحة، وعالماً بالحلال والحرام أيضاً، ومتأثراً في قلبه بهذا العلم ومطبقاً في جوارحه، وإلا فإن من علم العلم الشرعي من الفقه وغيره، ثم لم يعمل به ولم يدع إليه، فهذا لا يقال إنه أراد الله به خيراً، لأن علمه أصبح حجة عليه لا حجة له.

كان المسجد في دولة الإسلام التي أسسها رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الهجرة – المدينة المنورة – مكان للعبادة وغيرها من أمور الدين والدنيا. وخطبة الجمعة التي تشتمل على محورين يقف الإمام عند كل منهما بالتفصيل، محور للتذكير بالآخرة والآداب العامة ومحور يتناول أمورا حاضرة في دنيا الناس من المسلمين بالمعالجة النبوية فيما يخص من سَيرهم العام، انطلاقا من الأسرة التي هي نواة المجتمع إلى الحكم الذي هو أول عرى الإسلام كما ذكرنا في الحديث آنفا.

فمن قال إن المسجد مكان للصلاة فقط فقد تقزم تفكيره وقل علمه بالدين. ونحن مع الأسف الشديد في أزمة لثقافة الدين، فالجهل بالشيء يخل عن تصوره. فعدم الفهم الصحيح للدين والإعراض عن المشايخ والعلماء والتنقيص منهم، ذلك كله بسبب غياب المبادئ والقيم والتربية والأخلاق الفاضلة. لذلك لابد أن يعي الآباء دورهم التربوي لأبنائهم الذين هم عماد هذه الأمة، أمة الخيرية. فإعداد الطفل لهذا المستقبل الواعد يكون من الأسرة التي هي أساس المجتمع الفاضل وميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما “أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، …” [متفق عليه].

وقد أكد الإمام عبد السلام ياسين في كتابه “المنهاج النبوي” على هذه التربية وجعلها محور كتابه وأسس لها منهاجا عمليا غايته أن نكون قولا وعملا “كان قرآنا يمشي على الأرض” كما عبرت عن ذلك أمنا عائشة رضي الله عنها لما سألها الصحابة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي من صح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله “إنَّما بُعثتُ لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ” ما يؤكد أهمية التربية أو التزكية أولا وتانيا وثالثا (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 7 – 10].

والله أعلم.‏

Leave a Reply