معلمة من معالم سوس العالمة: رقية الأدوزية

(1) من هي رقية هذه وكيف نشأت:
هي السيدة رقية الأدوزية بنت الأستاذ محمد بن العربي الأدوزي. معلمة من معالم سوس العالمة. وأستاذة الجيل الباني. والتي انجبت رجالا حملوا مشعل الرشاد ونوروا طريق الهداية. فكانوا أمثلة نموذجية في مجال التربية والتعليم والمجاهدة والدعوة الى إحياء ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الحنفية السمحاء. فكانوا نعمة على هذا القطر السوسي. فجاهدوا في إحياء السنة وتثبيت العقيدة وترسيخ المبادئ وإحياء الربانية في نفوس العامة والخاصة بالتربية والصحبة. فتتلمذ عنهم كل من جاورهم وخالطهم بالصحبة والمخللة والمحبة. فلنشهد ذلك بأنفسنا في ذكر بعض مناحي السيرة الذاتية لهذه السيدة الفريدة في بيئتها وزمانها.

هي السيدة رقية الأدوزية زوجة الشيخ الإلغي سيدي الحاج علي الدرقاوي. ووالدة سيدي محمد المختار السوسي. الفقيه الأصولي الملقب برضا الله، نفعنا الله بعلمه وبمحبته وجزاه عن الأمة خيرا معتمدين في بحثنا هذا على ما كتبه عنها ابنها في موسوعته التاريخية (المعسول). والمشتملة على عشرين جزءا في التاريخ العام والخاص للقطر السوسي، وكذلك الكتاب الذي كتبه عن والده والذي سماه (الترياق المداوي في أخبار الشيخ الإلغي سيدي الحاج علي الدرقاوي). وتلك منة أنعم الله بها على ذلك الجيل من أمثال المختار وعشيرته وغيرهم من الرجال والنساء الذين تتلمذوا في حضن السيدة رقية الأدوزية. صاحبتنا في هذه السطور التي لا تفي بما تستحق هذه السيدة من المنزلة عند من يعرفها حق المعرفة وإنما سمحت لنفسي في تحفظ أن أقتحم سيرة هذه السيدة لأخط ما كتبه عنها ابنها للاستفادة من سيرة أمثال هؤلاء الرائدات من الخالدات بصدقهن مع الله. فقد كان لهن الخلود حقا في الحياة وبعد الممات حيث كانت أول معلمة للنساء في (إلغ) ومهذبة للبنات. فيها تربين وبها تعلمن وبها كانت شيم وفضائل سرت فيهن بفضل الله سريان الماء الزلل يسقي قلوبا مفتوحة ونفوسا متهيئة بإذن ربها (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) الآية 18 من سورة الحشر.

قال المختار بعد نبضة مستفادة عن البيئة المحافظة التي نشأ فيها قال: ما أعلنه عن والدتي هذه أنها التي سمعت منها بادئ ذي بدء تمجيد العلم والتعلم وأهله وإكبار تلك الوجهة. وكان كل مناها أن تراني يوما ما ممن تطلعوا في تلك الثنية.
لقد درجت والدتي بين يدي والدها علامة جزولة في عصر تتلمذ عنه خلق كثير وله باع في الفقه والسنة. أتقنت حفظ كتاب الله ومن بين جهازها لوحتها. وقد أخبرني أستاذها سيدي أحمد بن عبد الله المجاطي بما يلي فقال: استدعاني والد المترجمة الأستاذ محمد بن العربي الأدوزي سنة 1310 هجرية، فجئت إليه من المدرسة الأدوزية، وهي من المدارس العتيقة المشهورة في جبال جزولة. فأمرني أن ألازم داره وأن أعتكف فيها على تعليم بناته وأولاده. فوجدت في لوحة والدتك الآية (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ…) فقد كانت تتعلم قبل أن أتصل بداركم عند غيري، ثم دأبت عندي حتى ختمت سبع ختمات، وجودت غاية التجويد، فأراد والدها أن يدخلها في طور العلوم التابعة للقرآن، فإذا بتزويجها يأتي بغة، وذلك عند مراهقتها. ولما حان وقت رحيلها إلى بيت زوجها أدخلوها علي وقبلت رأسي ولوحتها في يدها. ويستطرد ابنها المختار قائلا …

(2) كان للوالد زوجتان قبل والدتي، قد رزق منهما بنتان. وإحداهما وهي القائمة بشؤون الدار هي التي أشارت إلى زوجها بزواجه من والدتي في حوار عائلي. ثم كانت بشارة روحانية للوالد بعد ذلك في تزوجه بنت الفقيه هذه رقية، فقد يسر الله له أسباب ذلك. وأخبار ذلك نجده في الكتاب الذي خصه لحياة والده سيدي الحاج علي الدرقاوي شيخ الطريقة الدرقاوية بسوس.

(3) واستطرد المختار في حديثه عن والدته فقال: ولما استأنست الوالدة في دارها الجديدة، قال لها الوالد أن شغلك في دارك هذه هو تعليم هاتين البنتين فاطمة وخديجة. فكانت هي معلمة الدار والمرشدة والواعظة للوافدات إلى الشيخ. ولما شد عود تلميذاتها بدأن يقمن معها بذلك الارشاد الذي تعلمناه منها ومن أبيهن. وكان تعليمها للبنات مقصورا على ما تيسر من القرآن، وتعليم الكتابة والتهجي والتمرين، حتى تقرأ التلميذة من تلقاء نفسها الكتب المترجمة من العربية الى اللهجة المحلية. وهي موجودة بكثرة وهي مشتملة على السيرة والأحاديث والقصص. وكنا نحن كذلك في الطور الابتدائي نأخذ منها.
وللسيدة رقية تمكن في كل ما يحتاج إليه من فقه العبادات بلسان قومها. ولها يد لاتعرف إلا أن تعطي كل ما في متناولها إكراما وتكرما.

ولقد أخبرتني أختي فاطمة التي تلازمها دائما أنها تعودت ختم القرآن في كل أسبوع. وتتحين بالختم يوم الجمعة. فقالت: فنجتمع حواليها فتشملنا بالدعاء. وإنني منذ سنة 1329 هجرية التحقت بالمدارس. وما كنت أستحضر من أحوالها إلا القليل. وما كنت أزورها إلا في ((العواشر)). وفي سنة 1341 هجرية زرتها فكانت آخر زيارتي لها لأنها توفيت بعد ذلك. ثم رجعت إلى الحمراء، وفي ربيع الأول من سنة 1342 وأنا جالس في غرفة أحد أصدقائي في المدرسة اليوسفية بالحمراء، حمل إلي البريد خبر نعيها والتحاقها بالرفيق الأعلى.

انتهى ما كتبه عنها ابنها الفقيه الأصولي سيدي محمد المختار السوسي.

(الخاتمة) وهكذا كانت هي المدرسة الأولى التي رضع منها ابنها أستاذ الجيل الفقيه المختار، ما هو كائن من أمره في العلوم والتربية والمجاهدة، قبل ان يرحل إلى الشيوخ من أهل العلم في البوادي والحواضر ليأخذ من الجميع ما قدمه للأجيال التي بعده، تاركا تراثا يشهد به الحاضر والمستقبل. وللمختار صيت في حاضرة البيضاء والرباط وفاس. ولأخوته كذلك مواقف واجتهادات ولأخواته فاطمة وعائشة ومريم جولات في الفقه والتصوف والوعظ والإرشاد. الجميع رضع من ثدي واحد ومن مشرب أولي في المبادئ والتعلم عن هذه السيدة الرائدة.

هكذا تعرفنا شيئا ما عن سيدة عظيمة وأم تركت بصماتها في التاريخ. فهنيئا لك يا رقيه فلتنامي قريرة العين بما أسلفت وقدمت لآخرتك من مكرمات ما يشهد لك به التاريخ. فقد كنت بحق المدرسة الأولى للأجيال السالفة واللاحقة والقدوة في التربية والمجاهدة لمن أراد أن يتذكر ويتأسى بالسلف الصالح.

((كتب هذا الملخص بتصرف من كتاب المعسول، الفقيرة إلى ربها أم أسماء، راجية ثواب ذكر الصالحين وبهم تتنزل الرحمات)).

Leave a Reply