إن أنوار أسرار الحج التي يشاهدها العارفون بالله، و التي تجلى لهم عند كل خطوة و منسك من مناسك الحج، قد أومأ إليها العارف بالله تعالى أبو بكر الشبلي رضي الله عنه في واقعته المشهورة مع أحد مريديه حيث سأله عدة أسئلة قبل قيامه برحلة الحج و بعد عودته من هذه الرحلة المباركة.
ونكتفي بالإشارات الذوقية التي أقرنها بكل منسك بمنسك الحج واعلم أيها القارئ الكريم أن هذا العارف بالله في حواره مع تلميذه ما سأل إلا عن ذوقه هل أدركه غيره أم لا؟ و إن كان غيره يدرك هذا و قد يدرك ما هو أعلى منه أو ما هو دونه، الآية (وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ) 164 سورة الصافات. حيث أن الأذواق تتفاوت بحسب عناية الله. و كل أهل المعرفة اتفقوا على المعاني التي أوردها الشبلي في حواره ذاك، ان كل منسك و مشعر و حكم، تذكرة و حكمة و عبرة و تعريبا قدسيا لأولي الألباب. و بيان ذلك فيما يلي:
- اعلم كما انفرد الرهبانيون في الملل السابقة بالسياحة في البلاد والبوادي والجبال، سؤل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك فقال ((إن الله قد أبدلنا بالرهبانية الحنفية السمحة، والتكبير على كل شرف)). فأنعم الله عز وجل على هذه الأمة بأن جعل الحج رهبانية لهم. فشرّف البيت العتيق يقصده الزوار من كل فج عميق، شعثاً غبراً متواضعين لرب البيت، ومستكينين له خضوعاً لجلاله واستكانة لعزته. فينبغي لطالب الحق و السالك أن يتذكر بكل عمل من أعماله أمرا من أمور الآخرة و سرا من الأسرار الالاهية.
- فمثلا يتذكر بالخروج من بلده، الخروج من الدنيا بالتجرد والفناء. والإعراض عما سوى الله، والتوجه لجناب الحق بزاد التوكل والصدق والعزم إلى عالم القدس لأجل الأنس. و يتذكر بمشاهدة العقبات في البادية أهوال القيامة وسفر الأخرة، ومهالك النفس في أودية السير والسلوك المقصود الذي يسلك الطريق بلا شيخ سالك يرشده.
- وبثوب الإحرام يتذكر الكفن و نزع لباس البشرية بالفناء و التجرد بالتلبية. ويتذكر عالم الروح حين قالوا (بَلَى) و إجابة الحق عند البعث. و يتذكر بالانصراف إلى البيت انصراف الخلق من الموقف إلى الجنة. والانصراف من عالم الحس إلى عالم القدس. و يتذكر بالطواف طواف الملائكة حول العرش وطواف الأسرار والتجليات بحظرة قلب العارف الكامل. و يعتبر استسلام الحجر مبايعة الحق بالطاعة والصدق مبايعة الروح بالعهد الأزلي الميثاقي (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) الآية 172 من سورة الأعراف.
- و يعتبر عند تعلقه بأسوار الكعبة تضرع التائب بباب من أناب اليه رجاء عفوه و ستره.
- و يتذكر بالصفاء و المروة كفة الحسنات والسيئات و سير القلب يبن عالم النفس و الروح.
- و يتذكر بالوقوف بعرفة اجتماع الخلق في القيامة و رجاءهم و تحيرهم والتحقق بمقام العرفان بالخوف و الرجاء.
- و عند نحر الهدي يتذكر عتق النفس بكل عضو منها من النار و ذبح النفس بسكين المجاهدة و الريادة في سلوكه إلى ربه.
- و يتذكر برمي الجمرات طرد الوسواس و الخواطر و الأفكار الدنيوية عن القلب.
- و بحلق الرأس إزالة الحجب الكونية.
فإن رأيت السالك بعد حجه أنه قد زاد إقلاعا عن دار الغرور و توجه إلى رب البيت بالفرح و السرور، فقد وثق بالقبول إن شاء الله.
فمن جمع هاتين الحجتين، حج الشريعة وحج الحقيقة فقد فاز بالسعادتين. فالحج حجان: عند أرباب الحقيقة حج الشريعة و حج الحقيقة.
أما حج الشريعة فهو زيارة البيت المكي بجميع الشرائط والأركان كما وصفه الشرع.
وأما حج الحقيقة فهو الوصول إلى مقام القلب وشهود الوحدة. فمن كان له بصيرة في المعرفة علم وتحقق أن الله تعالى رسم هذه المناسك مثالا لحضرة جلاله.
لقد وضع الله للناس بيت حسي وهو الكعبة وبيت معنوي و هو القلب الذي هو بيت رب الأرباب. و كما جعل الله الكعبة قياما للناس يقوم به أمر دينهم و دنياهم، جعل القلوب التي هي كعبة الأنوار و الأسرار قياما للناس يقوم بها أمر توحيدهم و يقينهم وأوامر سيرهم ووصلهم. و في الحديث كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، …)).
و من دخل مقام المعرفة أمن من عين النكرة. و من أدخل نفسه نور الإسلام أمن قلبه من وساوسها و نزعاتها. و من دخل بهذه الصفات التي ذكرناها إلى بيت الله تعالى أمن من عذاب هجرانه دنيا وآخرة إن شاء الله. جعلنا الله من الداخلين بالصدق و اليقين و الفائزين الآمنين بمشاهدة أسرار رب العالمين.
المصدر نقلا بتصرف عن الكتاب الثالث و العشرون سلسلة كتب التصوف.
اَللّـهُمَّ ارْزُقْني حَجَّ بَيْتِكَ الْحَرامِ في يُسْر مِنْكَ وَعافِيَة، وَسَعَةِ رِزْق، وَلا تُخْلِني مِنْ تِلْكَ الْمواقِفِ الْكَريمَةِ، وَالْمَشاهِدِ الشَّريفَةِ،