مريم البتول

هذه سيرة من السير العطرة ممن سبقت لهن الحسنى وزيادة. وممن ذكرهن الله في كتابه العزيز وخصهن بالكرامات والصديقية وهي مريم البتول العذراء رضي الله عنها وعليها السلام، وجمعنا بها في مستقر رحمته.

سنحاول إن شاء الله أن نعيش لحظات قدسية روحانية مع الصديقية مريم التقية نجية الملائكة من الميلاد الى النشأة،  لنستشف من روحانيتها ما يرفعنا إلى ذرى الإحسان، على ضوء ما جاء به أئمتنا من المفسرين والباحثين جزاهم الله عن الأمة خيرا.

وقد تحدث أئمتنا عن ما جاء به القرآن من نماذج نسائية. وتجاوزت الآيات التي خصت بالحديث عن النساء 250 آية. وحملت ثاني أطول سورة في القرآن اسم (النساء). وخبر مريم من بين ذلك أغرب من خبر ميلاد يحيا عليه السلام لأنه ولادة عذراء من غير بعل. وخبر مريم ينقلنا إلى أجواء روحانية وبراهين ربانية وتجليات قدسية. فلنتخيلها صبية ملازمة لبيت الله حيث هيأ لها الله أسباب التربية الحسنة (وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا) سورة آل عمران الآية 37.

إذا فلنتخيلها من الولادة إلى النشأة إلى ولادة عيسى عليه السلام. الآية العظمى من آيات الله الباهرة لشهود العيان ولكي نسرد قصة سيرة كهذه لابد لنا أن نغوص في المعاني. لنستخلص العبر ونحظى بما تحمله أخبار هذه الصديقية من روحانية وسمو، نحن بحاجة إليه في عالم طغت فيه المادية على الروحانية. فلم يعد الإنسان سوى آلة في عالم المادة بعيدا عن سمو الروح وغذائها. فبذكر الأنبياء والصالحين تتنزل الرحمات وتلين القلوب القاسية. ونضع أصبعنا على خبر مريم الذاكرة القانتة الساجدة الراكعة العابدة والخادمة على أعتاب الربوبية للرب المعبود، ولا معبود سواه جل شأنه.

لما اسنت – حنة – واشتاقت للولد دعت الله سبحانه الآية 35 من سورة آل عمران (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). ولما أحست بالحمل قالت يا رب إني نذرت أن أجعل لك ما في بطني محررا، عتيقا خالصا من شواغل الدنيا لخدمة بيت المقدس. فتقبل مني إنك أنت السميع العليم بالنيات. ثم توفي عمران وهي حامل فلما وضعت، وضعتها – أنثى – فقالت تناجي ربها الآية 36 (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) سمتها مريم بمعنى خادمة الرب المعبود وقولها وإني أعيذها بك من الشيطان الرجيم. جاء في حديث خاتم النبؤات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم (ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان غير مريم وابنها) رواه الشيخان. 

وأنبتها نباتا حسنا وهو أنشاؤها بخلق حسن فكانت تنبت في اليوم كما ينبت المولود في العام .وأتت بها -أمها – الأحبار وسدنة بيت المقدس فقالت دونكم هذه النذيرة. فتنافسوا فيها لأنها بنت إمامهم.

فاصطفاها الله على أهل زمانها. (يامريم صلي مع المصلين) يا مريم إن الله يبشرك بولد اسمه المسيح عيسى ابن مريم، تثبيتا على أنها تلد من غير أب إذ عادة الرجال تسميتهم إلى آبائهم. وجيها في الدنيا بالنبوة وفي الآخرة بالشفاعة والدرجات العلى ومن المقربين عند الله.  

ويكلم الناس في المهد وهو طفل قبل وقت الكلام. قالت كيف ذلك يارب وأنا لم يمسسني بشر بتزويج أو غيره، لكن الله يخلق ما يشاء إذا أراد أمرا فإنما يقول له كن فيكن.

نفخ جبريل في جيب درعها فحملت. وكان من أمرها ما جاء في سورة مريم الآية 16 إلى الآية 35. فلما بعثه الله إلى بني إسرائيل قال لهم إني جئتكم بآية من ربكم، وإن في ذلك آية لكم إن كنتم مؤمنين، أن الله ربي وربكم فاعبدوه. ولم يؤمنا به.

وقال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي الآية 55 من آل عمران. وفي الطبري عن ابن عباس أن الله رفعه إلى السماء من غير وفاة ولا نوم (إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ) الآية 60 من آل عمران.

مريم في المحراب

الإنبات – تربية فطرية لا شائبة فيها.

الرزق – رزق روحاني  معنوي وهو العلم (اللدوني)  أو غيره لأن الله يرزق من يشاء بغير حساب. ولا توقع من المرزوق.

والاصطفاء الأول لها بالوحي أو (اصطفاء ذاتي) مما جعلها منزهة زكية. فهيأها الله لتكليم الملائكة لها بالوحي وقبولها محررة لخدمة بيت الله، ويدل كذلك على (نبوتها). والاصطفاء الثاني بمعنى التفضيل على الغير من نساء العالمين ونساء زمانها أو نساء سائر الأزمنة والاصطفاء عموما يدل على نبوتها. والنبوة تكون للنساء دون الرسالة ويدل على ما خصت به من خطاب الملائكة وكمال الهداية، مما جعلها تلد نبيا من غير أب. والتطهير فسر (بعدم الحيظ).

والمكان الشرقي هو المكان المناسب  لما ستتلقاه مريم من الوحي والاصطفاء بولادة عيسى عليه السلام من غير أب. فقد خلقه الله كما خلق آدم. والمحراب هو مكان خاص بالإمامة. والمحراب هنا رمز مكان خاص بمريم تختلي فيه لربها بالتبتل.

والحجاب هو مابين النفس البشرية وكمال الروح. فمريم عندما وصلت إلى مقام الحجاب عن الخلق أتاها روح القدس وهو جبريل عليه السلام فتمثل لها بشرا  لذلك كان خوفها منه. لقد كانت في مقام استقبال الملائكة. لذلك  كان خوفها لما رأت بشرا يخبرها بالخبر العظيم والأمر الجلل وهو (ولادة عيسى عليه السلام). قال السيد قطب: في سؤالها ذكاء وشخصية.لم لم يرد نص قطعي من كتاب ولا من سنة في تحديد فترة حمل مريم بعيسى عليه الصلاة والسلام. ولعل أقرب الأقوال هو قول ابن عباس رضي الله عنهما: ما هو إلا أن حملت فوضعت في الحال، فهذا هو الظاهر لأن الله تعالى ذكر الانتباذ عقب الحمل.

المكان القصي هو أقصى المدينة الآية 22 (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا). لأن ما أتت به ابتلاء لها لأنها كانت في مقام. ثم المخاض. وكلام الناس. الآية 23 (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) يواسيها ربها (لَاتَحزَني). ويقال أنها قالت ذلك حتى لا تسمع من سيقول في الله تعالى .- أن عيسى ابن الله – فقال عيسى عليه السلام (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) الآية 30. فقدم ذكر العبودية ليبطل من ادعى الربوبية فيه. وهكذا بلغت درجة من الصلاح والتعبد أن ناداها قومها (يَا أُخْتَ هَارُونَ) رغم تباعد الزمان بينهما وعدم وجود نسب غير النسب الروحي الآية 28 من سورة مريم. ونسوق هذا الحديث في السياق ليكتمل الفهم ((كمل من الرجال كثير وكمل من النساء أربع مريم ابنة عمران وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد)) الحديث رواه الشيخان. والكمال هنا “كمال نوع وليس كمال كم”. والكمال البشري يكون بتوازن غذاء الروح والجسد. يتغدى الجسد بالإطعام ليقوى على العبادة لا لينغمس في الشهوات واستشعار وحدانية الله وقدرته في قول (كُن فَيَكُونُ) الآية 82 من سورة يس. وفي الأخد بالأسباب للبشر لما قال لها (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) الآية 25 من سورة مريم.

كذلك لا نغفل عن مظاهر تكريم الإسلام للنساء وإعادة الاعتبار لهن كائنات إنسانية حرة ومسؤولة. ورفع أغلال ظلم الجاهلية التي رزحن تحتها. ومن مظاهر تكريم الإسلام لها تنويه القرآن والحديث بمجموعة من النساء كنماذج في مختلف الميادين التعبدية والسياسية والاجتماعية والجهادية. ولعل أهم هذه النماذج على الإطلاق في تاريخ الملحمة الدينية النسائية مريم عليها الصلاة والسلام. بل إنها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((سيدة نساء أهل الجنة)). مجدها القرآن بهذا التكريم الإلاهي الرائع (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) الآية 42          آل عمران – ذكره القرطبي في جامعه – ونبوة مريم نفاها كثيرون واثبتها بعضهم منهم الشيخ الفضل بن عاشور.

Leave a Reply