إن علم الباطن هو علم الحقيقة. وهو باطن الشريعة وحقيقتها وهو الذي يمكن الوصول به إلى الإخلاص في العبودية والقيام بحقوق الربوبية وهو المشار إليه في القرآن بعبارات مختلفة. وفي مواضع كثيرة أشار له بالحكمة فقال تعالى : {يُوتي الحِكْمَةَ مَن يَّشاءُ} (البقرة269)، وأشار إليه بالعلم اللدوني {وَعَلَّمْناهُ مِن لَّدُنّا عِلْما} (الكهف65) وأشار إليه بالفتح {إِنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبيناً} (الفتح1) وبالسكينة {هُوَ الَّذي أَنْزَلَ السَّكينَةَ في قُلوبِ المُؤمِنينَ} (الفتح 4) {فَأَنْزَلَ اللهُ سَكينَتَهُ عَلى رَسولِهِ وَعَلى المُؤمِنينَ} (الفتح 26 ) إلى غير ذلك من الآيات التي دلالاتها واضحة على الإيمان الخاص، لقوله تعالى : {يا أَيُّها الَّذينَ آمَنوا اتَّقوا اللهَ وَآمِنوا بِرَسولِهِ} (الحديد28)، و(10-11-الصف) و(المدثر31)، إلى غير ذلك. فيؤخذ من هذا أن الله تبارك وتعالى لو كان يدعوهم إلى الإيمان العام لم يخاطبهم بالذين آمنوا. ومعلوم أن الإيمان لا يطلق إلا على من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، كما في الحديث الشريف الذي فسره النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام، والذي رواه عمر رضي الله عنه. فلما كان الله تبارك وتعالى وصفهم بالإيمان وناداهم بالمؤمنين وأمرهم بالإيمان ثانيا علمنا أنه ثم إيمان خاص وهو المشار اليه “بالإحسان” كما في الحديث. قال عليه الصلاة والسلام «أن تعبد الله كأنك تراه» إشارة إلى المشاهدة وهو أعلى مقام في العبادة، ثم قال عليه الصلاة والسلام «فإن لم تكن تراه فإنه يراك» إشارة إلى المجاهدة والمكابدة. والمجاهدة من جاهد نفسه في طاعة الله.
ولو كان الخطاب للعامة لخاطبهم خطاب العموم الذي هو كثير في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (الأعراف158) وقوله تعالى : { يا أَيُّها النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ } (فاطر5).
والآيات كثيرة ودلالتها واضحة على خطاب العموم. وقد أشار رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى علم الباطن بقوله صلى الله عليه وسلم «أنا دار الحكمة وعلي بابها» (أخرجه الترمذي ، وقال حديث حسن) وفي رواية «أنا مدينة العلم وعلي بابها»، وروي عن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، قوله :
يَـا رُبَّ جَـوْهَرِ عِلْمٍ لَوْ أَبُوحُ بِهِ
لَقيلَ لي أَنْتَ مِمَّنْ يَعْبُدُ الْوَثَنا
وَلا سْتَحَلَّ رِجـالُ مُسْلِمـونَ دَمـي
يَرَوْنَ أَقْبَحَ مـا يَأْتُـونَهُ حَسَنا
ذلك أن الحقائق الربانية لا يستطيع حمل أعبائها إلا من أهله الله لذلك، وشرح صدره لما هنالك، إذ لا يقدر على حملها إلا نبي كريم أو ولي حكيم.
هذا العلم هو مطلب أهل الله في كل عصر من عهد الصحابة رضوان الله عليهم إلى يومنا هذا، وذلك هو مطلب العلماء العاملين بعلمهم والأولياء المحقين والعباد المخلصين، وهو الذي من أجله تصوف المتصوفون، فأخذوا الأوراد من أكابر الأمة، ومن أجله دخلوا الخلوات وتعبدوا فيها اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأقبلوا على الاستغفار والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقراءة القرآن أناء الليل وأطراف النهار، أفرادا وجماعات، في المساجد وخارجها، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم « من عمل بما يعلم ورثه الله علم ما لم يعلم ».
وهذا العلم حقيقته لا تدرك وفضله لا يكيف، لذلك ترى من خصه الله بشيء منه لا يباري ولا يجاري، يشهد لذلك ما جرى لموسى كليم الله مع الخضر عليه السلام في سورة الكهف فقد طلب موسى العلم من الخضر، ومعلوم أن موسى عليه الصلاة والسلام أفضل من الخضر لأن موسى نبي مرسل من أولي العزم من الرسل، والخضر ولي من أولياء الله تعالى.
أسأل الله مالك الملك أن يمن علينا و عليكم بنعيم اﻹيمان.