المحبة والإتباع وأثرهما في مراقي الإيمان في ظل الآية الكريمة 31 من سورة آل عمران {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْلَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
الإتباع لأمر الله عز وجل علم أساسه المعرفة. فعلى قدر رسوخ القدم على طريق الإتباع لأمر الله يرتقي الإنسان في سيره إلى الله تعالى. لأن نيل ثمرة السير إلى الله (نيل المحبوبية عند الله ) هو اتباع رسول الله سيد العرب والعجم، من أرسله الله رحمة للعالمين.
والمقصود بالإتباع وسر الإتباع والحكمة في شرف الإتباع أن يخرج الإنسان من مراد نفسه إلى مراد ربه وهو المقصود في حقيقة العبادة. فمن وصل إلى هذه الحقيقة في اتباعه لرسول الله ذاق حلاوة الأنس بالله فبات أمره كله لله وفي الله وعلى الله. معنى ذلك: بات يرى بعين قلبه وقالبه. كيف نروض أنفسنا على حقيقة الإتباع لنيل ثمرة المحبوبية؟ لا يتحقق ذلك إلا إذا طهر الإنسان قلبه من الأمراض التي تحجبه عن هذه المعرفة، وهي الكبر والعجب وما يتفرع منهما. وليس هناك مانع أعظم من النفس الأمارة بالسوء. وفي إضعاف سطوة هوى النفس الأمارة أمر كبير من التقرب إلى الله عزوجل. لذلك لابد من المجاهدة والمحاسبة والاستغفار والتوبة والإنابة إن دعته النفس والهوى والشيطان. فإذا كان الاجتهاد في الصيام والصلاة وما يحصل بعد ذلك من الصدقة ومن كثرة الذكر ومن قيام الليل، وهي أمور لابد منها والإنسان يحتاج إليها في سيره إلى الله، فهناك معنى في مجاهدة النفس أعمق من هذه المعاني كلها، وهو أن يروض المؤمن نفسه على أن تترك ما تريد لما يريده الله عز وجل. ذكر الغزالي في الإحياء فقال : ويروى أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام: يا داود إنك تريد وأريد، وإنما يكون ما أريد، فإن سلمت لما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد. وكذا ذكره الحكيم الترمذي في نوادر الأصول.
إن سُلم الارتقاء للإنسان هو أن يمكنه الله من أن يملك زمام نفسه فيخضعها لأمر ربه. وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أحكاما وأدبا في سائر شؤون حياتنا. والمقصود من ذلك أن نروض نفوسنا على أن نسير على قدم الإتباع. والنفس إن روضتها اعتادت هذا الأمر وأصبحت تتعشقه. وعندها ينفتح لها باب الأدب مع الله.
ومن صحيح الإيمان بل من مقتضيات الإيمان ومن شروط الإيمان أن يكون في قلب المؤمن تطلع إلى صلته بربه من بعد المحبة. إذ لا إيمان لمن لا محبة له. إذ أن المحبة هي الباب الذي من دخل منه على ساحات معاملته مع ربه لا يخيب أبدا ولا يضل سعيه لأنه سائقه إلى ربه. هو شأن تعلق قلبه بربه وهو عين صدقه. ومن هنا كان خطاب الله عز وجل لنبيه وحبيبه ﷺ في القرآن في شأن هذه المحبة التي أبداها قوم وادعاها قوم {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّه فَاتَّبِعُوني يُحْبِبْكُمْ اللّه وَيَغْفِرْلَكُمْ ذنوبَكُمْ وَاللّهُ غَفورٌ رَحيمٌ} ( آل عمران/31)
فجعل الباري سبحانه شأن محبته منوطة بمنهج محسوس يفضي الى ذوق معنوي وهو نهج الإتصال بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه. وهو الباب الأعظم للدخول على ساحات تحقق المؤمن والمؤمنة بربها ((اتبعوني)). صلة بالحبيب المصطفى على طريق أساسه المحبة لأن الإنسان يتبع خوفا أو هيبة أو طمعا أو رجاء ويتبع بجميع معاني الاتباع. وقد يتبع محبة وهو الإتباع الراسخ وهو سبيل الصدق. فكلما ارتقى المحب من مرتبة في المحبة طالبته التي تليها. لذلك كان أساس بنيان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم في طلب محبتهم لله من باب اتباعهم لحبيبه ومصطفاه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله أنهم يقيمون أصل صلتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم على قاعدة صدق المحبة وصفوها. وفي هذا المعنى يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لسيدنا عمر بن الخطاب، مرقيا إياه الى مرتبة كمال الإيمان. لما قال له عمر يا رسول الله لأنت أحب إلي من أهلي ومالي وولدي والناس أجمعين إلا نفسي التي بين جنبي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ليس بعد يا عمر – وفي رواية (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب اليه من نفسه)).
لكن معنى ذوق الإيمان الذي كان عند سيدنا عمر هو الذي حمله على أن يقابل رسول الله ليشكو إليه ما يجده من حاله. هو في باب المحبة لأن الصحابة قد عدوه الطبيب صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله .. فقال صلى الله عليه وسلم – ليس بعد يا عمر .. لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه. فقال عمر بعد أن سكت هنيهة راجع فيها نفسه وتلقى خطاب رسول الله له تلقي إجلال وتعظيم وإعظام .. فقال سيدنا عمر لنفسه ويحك ما تكونين ومن تكونين حتى أوثرك على رسول الله. فقال: يارسول الله والله لأنت الآن أحب إلي من أهلي ومالي وولدي والناس أجمعين (ونفسي التي بين جنبي) فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم (الآن الآن تم إيمانك ياعمر).
هدا المعنى في الدخول الى حظرة الاتباع للحبيب صلى الله عليه وسلم هو أساس بنيان الصحابة رضي الله عنهم في طلب محبتهم لله أتياه من باب حبيبه ومصطفاه صلوات الله وسلامه عليه بصدق المحبة. فحب الله أساسه محبتنا لرسول الله. لأن هذا يقوم على أساس هذا، وهذا من أجل هذا.
يقول أبو الحارث المحاسبي .. كملخص لكل ما ذكرناه في هذه المدارسة في معنى (الإتباع والمحبوبية).
علامة حب العبد لله عزوجل اتباع مرضاته والتمسك بسنن رسول الله صلى الله عليه وعلى اله وسلم. فإذا ذاق العبد حلاوة الايمان ووجد طعمه ظهرت ثمرة ذلك على جوارحه ولسانه واستحلى اللسان ذكر الله تعالى ومالاه، وأسرعت الجوارح إلى طاعة الله فحينئذ يدخل حب الإيمان في القلب كما يدخل حب الماء البارد الشديد برده في اليوم الشديد الحر للظمآن الشديد العطش فيرتفع عنه تعب الطاعة بل تبقى الطاعات غداء لقلبه وسرورا له وقرة عين في حقه ونعيما لروحه فلا يجد في أوراد العبادة كلفة.
توفي في بغداد سنة 243 هجرية خلف مؤلفات كثيرة معظمها في الزهد والسلوك والتربية والرقائق . قال عنه صاحب الاعلام. الامام أبو الحارث المحاسبي هومن اكابر الصوفية كان عالما بالاصول والمعاملات واعظا مبكيا.( قال عنه ابن تيمية كان له من العلم والفضل والزهد والكلام في الحقائق ما هو مشهور).